تشتد حماوة الحملات الانتخابية النيابية في لبنان والتي ستجرى في 6 مايو المقبل، وسط غياب البرامج لدى معظم المرشحين الذين يركزون في مواقفهم على الوعود بتقديم الخدمات العامة والخاصة من ناحية، ومحاولة استمالة الناخبين ببعض الخدمات المتوافرة لديهم في موسم الانتخابات، حيث يزداد الحديث عن ظهور المال الانتخابي والخروقات للقوانين والأنظمة.
على أنه في مقابل تقديم بعض اللوائح برامج جادة لامست من خلالها الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والخدماتية التي تعاني منها البلاد وسبل مواجهتها، ولاسيما محاربة الفساد ودعم القطاعات الإنتاجية وإيجاد حلول متوافرة للمشكلات الخدماتية واستغلال الثروات النفطية والغازية والمائية التي تتوافر بكميات كبيرة، وجرى التلكؤ في الاهتمام بها ووضعها في مقدمة سلم الأولويات من قبل الحكومات المتعاقبة على مر السنوات التي أعقبت تنفيذ اتفاق الطائف حتى اليوم.
فإن اللوائح التي تمثل أطراف أساسية في السلطة السياسية، وحكمت البلاد على مدى السنوات الماضية، واصلت الترويج لسياسات النيولبرالية المسؤولة عن إغراق البلاد بالديون والتي تجاوزت عتبة الـ 86 مليار دولار والعودة إلى إطلاق الرهانات على الديون التي سيتم تأمينها عبر مؤتمر سيدر الذي عقد أخيرا في باريس وتصوير أنها ستحل أزمات الاقتصاد وتؤمن فرص العمل لمئات الآلاف من اللبنانيين على مدى السنوات العشر المقبلة، وهو أمر يعتبر تحقيقه شبه معجزة، لأن مثل هذا الأمر يحتاج بلوغه إلى تغيير جوهري في السياسات النيولبرالية التي لا يمكن أن تنتج فرصا للعمل لأنها لا تركز على قطاعات الاقتصاد الحقيقي من صناعة وزراعة وغيرها من القطاعات التي إذا ما تم النهوض بها وحدها توفر فرص العمل وتؤدي إلى تنشيط الحركة الاقتصادية والتجارية والعمرانية في البلاد.
ويبدو من الواضح أن القوى التي حكمت البلاد ليس لديها ما تقدمه لمعالجة الأزمات التي تسببت بها سياساتها سوى المزيد من الاستمرار في الإيغال في هذه السياسات التي أدت إلى تدمير الإنتاج وتراجع معدلات النمو وإشاعة الفساد ومواصلة تعطيل النهوض بقطاعات الخدمات العامة لاسيما قطاع الكهرباء وجعله يغرق أكثر في الدين الذي تجاوز عتبة الـ 22 مليار دولار، وذلك بقصد إيصال اللبنانيين إلى القبول بخيار بيع هذا القطاع لبعض الشركات الخاصة القريبة من هذه القوى أو المحسوبة عليها بحيث تستفيد هي من عائدات هذا القطاع الرابح بدلا من خزينة الدولة، وظهر تعمد عدم تسهيل الحلول لهذا القطاع عبر رفض كل المساعدات التي قدمت من دول صديقة لحل أزمة الكهرباء في مدة زمنية قياسية، فيما جرى عرقلة اعتماد الحلول اللامركزية لحل مشكلة تأمين التيار على غرار التجربة الناجحة لبلدية زحلة والتي أكدت إمكانية حل المشكلة بأقل التكاليف ووضع حد لمعاناة المواطن والأعباء التي يتكبدها بفعل التقنين المستمر في التيار لساعات طويلة في اليوم.
من هنا فإن الرهان المعقود من قبل شريحة كبيرة من اللبنانيين بأن تشكل الانتخابات النيابية فرصة يستفاد منها للإتيان بغالبية برلمانية تدعم إعادة النظر بالسياسات النيولبرالية المتبعة وتدعم سياسات اقتصادية تنموية ومحاربة الفساد وحماية المال العام واستعادة حقوق الدولة في الأملاك البحرية والعمل على استغلال الثروات الوطنية بطريقة سليمة وصولا إلى حل أزمة الكهرباء ومشكلة النفايات والتي بدلا من تكون عبئا كما هو الحال، يمكن ويجب أن تعود بالنفع أن كان على خزينة الدولة أو على الاقتصاد أو على صحة المواطنين. كما أن الرهان على مجيء برلمان يؤيد مثل هذه السياسات ويعطيها الأولوية من خلال تشكيل حكومة تضع حدا لسياسة الاستدانة وتلتفت إلى تنمية الموارد المحلية وحماية المال العام واسترداد أموال الدولة من الفاسدين عبر رفض سياسة عفا الله عما مضى والإصرار على إجراء قطع حساب عن كل السنوات السابقة.
من هنا فإن هذه الفرصة إذا لم يستغلها اللبنانيون جيدا عبر انتخاب غالبية برلمانية تؤيد تغيير السياسات النيولبرالية، فإن الأزمات مرشحة للاستمرار وبالتالي اندفاع لبنان نحو المزيد من الغرق في الدين العام والخارجي وما تعنيه من تفاقم العجز في الموازنة والفوائد المراهقة وزيادة الضرائب واستطرادا تفجر الوضع الاجتماعي لعدم قدرة الناس على التحمل وبالتالي إفلاس لبنان لعدم قدرته على السداد، وهو الأمر الذي سيدفع الدائنين إلى فرض رقابتهم على المالية العامة لتحصيل ديونهم أولا كما حصل في مصر أيام الخديوي إسماعيل عندما استدان إلى حد لم يعد قادرا على دفع الفوائد عدا عن سداد الدين، ووضعت كل من بريطانيا وفرنسا مندوبين للإشراف على المالية المصرية.
أما الرهان على الثروة النفطية فإنه رهان قد لا يتحقق في حال ضياع فرصة التغيير عبر الانتخابات لأن بقاء السياسات الراهنة يعني أن النفط سوف يصبح مرتهنا للدائنين، بدلا من تكون هذه الثروة هي فرصة لبنان للخروج من أزماته عبر توظيفها للنهوض بالاقتصاد الوطني الإنتاجي وإقامة المشاريع التنموية التي تنهض بكل المناطق وتعزز الحركة الاقتصادية والسياحية في البلاد، وصولا إلى التخلص من الدين والعجز في الموازنة.
إن الشرط الوحيد الذي يحول دون اندفاع لبنان نحو الهاوية وإشهار الإفلاس، ويحول دون ضياع فرصة الإنقاذ، إنما تكمن في هذه الانتخابات النيابية باعتبارها هي المعبر للتغيير عبر الإتيان بمجلس نواب جديد يؤيد بغالبيته تغيير السياسات الاقتصادية والمالية الريعية، وتنبثق عنه حكومة تنهج سياسات إنقاذية، تعتمد التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية سبيلا لإخراج لبنان من أزماته، قبل فوات الأوان.
فهل يحسن اللبنانيون الاستفادة من فرصة الانتخابات النيابية في ستة أيار ويصوتون للوائح التي تطرح رؤى وبرامج تغييرية تعيد النظر جوهريا في السياسات التي دمرت الاقتصاد وأغرقت البلاد بالدين وأشاعت الفساد، وتعمل على إخراج لبنان من أتون الأزمة؟.